بقلم الأخ محمد شلبي موسى
إنَّ الزمان استدار.
وآن أوانُ الْتِئام الجروح، وانسداد الشُّقوق.
هبَّتْ رِيح الحرية الطيِّبة تشرح صدورًا، وتجلي عقولاً، وتُطلق بالحق ألسنةً ظلَّت معقولةً زمانًا طويلاً.
وتلك أعيننا أصبحتْ تقَرُّ يومًا بعدَ يوم؛ تقرُّ بخطيبٍ تفوَّه مِن رأسه لا من ورقته، ومِن قلبه لا من لِسانه.
تقرُّ بطالب عِلم أو حافظ قرآن كان قد غاب مشهدُه زمانًا في بعض بلادنا.
تقرُّ برؤية جمْع تِلوَ جمع يتحدَّثون عن فلسطين الصبور، وجروح الأمَّة العتيقة.
تقرُّ برؤية الوعي ينبُت من جديدٍ في أذهان أظلمتْ بالنسيان، وغفلتْ عن واجباتها أكثرَ ممَّا غفلت عن حقوقها.
تقرُّ برُؤية الأيادي التي تمتدُّ لتتصافح، والوجوه التي تلْتقي لتتضاحك، والمشاعِر التي تتعانق وتتشابك.
ولكن وسط هذا الفضاء الرَّحْب المليء بالخير، تزحَف زواحف للسوءِ والشر، فالساحة الإسلامية تمتلِئ بعديدٍ مِن التيَّارات والحركات الإسلاميَّة، أقول: كلها طيِّب حسن، ما دام يدعو إلى التي هي أحْسن.
ودائمًا كنتُ أرى الشخصيةَ الإسلامية أنَّها الشخصية المتكاملة: تقيَّة متواضعة، عالِمة عاملة، منظّمة مخططة، شديدة على الباطل لينة للحق.
فكان أنَّ الناس تحزَّبوا أحزابًا للحق، كل حُزب أخَذ بحظٍّ مِن هذه الشخصية الكاملة، فهذه جماعةٌ جعلتْ نُصب عينيها الاتِّباع والتواضُع وخدمة المسلمين، وهذه أخرى جعلتْ همَّها الاتباع والعِلم، وثالثة جعلت همَّها الاتباع والتوصُّل لحُكم قد يَزَعُ الله بسلطانه ما لا يَزَع بقرآنه.
ومِن هذه الاتجاهات مَن كان همه الاتباع فَضَلَّ عن قصْده وابتدع، وقد تحقَّق علمنا بحبهم لله والرَّسول، كما تحقَّق عِلمنا بضلالهم في الوصول.
ولكنَّه الضلال الذي يجب أن يستنفِرَ الشفقةَ والرحمة، وليس الذي يستنفر التفسيقَ والتكفير.
إنَّه الضلالُ الَّذي يستنفِر (النصيحة)، وليس الضلالَ الذي يستنفِر (الفضيحة).
ثم صار كل من يريد الخير لا يرى الخيرَ إلا في سبيله ونهجه، وهي في الأصل أنهار تصب في بحر واحد، ولا يضير الأنهارَ اختلافُ المجاري؛ كلها نهر جارٍ، ولكن قد يكون أحدُها أصْفى من غيره، أو أسْرع مِن غيره، أو أكثر استقامةً من غيره.
فثمَّة ملوثاتٌ ما تشوب صفاء اللَّوْحة الطيِّبة التي يرسمها المتديِّنون لدِينهم العظيم.
إنَّ اختلافَ الرؤى والاتِّجاهات لم يلق قلوبًا صاغية، ولا آذانًا واعية.
لقدْ أدَّى الاختلافُ إلى الخِلاف.
حتى لقدْ نرى بعضهم يسبُّ بعضًا، وبعضهم يفسِّق بعضًا، أذكُر أول أيام لي في إحدى الكليات الشرعيَّة في مصر، ساءني أيَّ إساءة منظرُ الخلاف في مسجد الكلية، انقَسموا شِيَعًا، كلُّ حزب بما لديهم فرحون، يريد كل منهم أن يستأثر بالمسجدِ؛ ليكونَ منبرُه منبرَه.
وظلَّ الخلاف حتى انفتَق رتقُ الجميع.
فجعني قولُ أحد المنتمين لحركةٍ إسلامية لأخيه المنتمي لحركةٍ إسلامية أخرى: أنتم مِن الفِرق السبعين التي ذَكَر رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنهم في النار إلا واحدة، وما عنَى بالواحدة إلا ما هو عليه.
وبقدر ما تجتمع النصوصُ تتفرَّق الأفهام.
وإنما تتفرَّق الأفهام حين تتبع الأهواء؛ لأنَّ الأهواء شتَّى، وكل هوى يُزيّن للنفس بقدْر سيطرته على عقلِ صاحبه، وبقدر ما يتَّخذ مِن اللُّغة النبويَّة الوجيزة مساحةً واسعةً شاسعة للتأويل.
وهل تستوي فرقٌ تختلف في عقائدها وأصولها، بطوائفَ تختلف في أساليبها ورؤاها الدعويَّة، هل يستطيع المتنطعُ في توظيف النصوص الدينيَّة أن يُطبِّق مثل هذا الحديث على الحنفيَّة والمالكيَّة والشافعيَّة والحنبليَّة؟!
إنَّ ذهني المُعَنَّى ينصرف أول ما ينصرف أمامَ هذه الفواجع إلى حديثِ ثوبان، قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ الله زوَى لي الأرض فرأيتُ مشارقها ومغاربها، وإنَّ أمتي سيبلُغ ملكها ما زُوِيَ لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وإنِّي سألتُ ربي لأمِّتي ألاَّ يهلكها بسَنَةٍ عامَّة، وأن لا يسلِّط عليهم عدوًّا مِن سوى أنفسهم فيستبيح بيضتَهم، وإنَّ ربي قال: يا محمد، إني إذا قضيتُ قضاءً فإنه لا يُرد، وإني أعطيتُك لأمَّتك ألاَّ أُهلِكهم بسنةٍ عامة، وألاَّ أسلِّط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتَهم، ولو اجتمع عليهم مَن بأقطارها - أو قال: مَن بيْن أقطارها - حتى يكون بعضُهم يُهلِك بعضًا ويَسبي بعضهم بعضًا))؛ مسلم (7440).
والواقِع شهادة لا تُرَد.
نحن أمامَ بلوى كبرى، فقدْ نحتمل أن يوجد خصامٌ بين العوام، ولكن لا نحتمل مثله بيْن مَن يحملون سراجَ الدعوة، يردِّدون معًا - على اختلاف دروبهم -: لا إله إلا الله محمَّد رسول الله.
إنَّ الذين يحملون هذه المشاعلَ لا يحملون هذه المشاعِر.
وقد عِلم الله تعالى أنَّ الاختلاف واقعٌ لا محالة، ولكنَّه أَصَّل له وهذَّب فروعه، والتفتَ العلماء السابقون والعاقلون اللاحقون لهذه الظاهرة، فأفاضوا في أدب الخِلاف، وفِقه الخلاف، وحدود الخلاف.
إنَّ المرَض الذي نشتكيه هو مزمِن، هو خبيث.
إنَّ علَّة الصدر في رفْض الغير فتراه ضيِّقًا حرجًا كأنما يَصَّعَّد في السماء، لهي عِلَّةٌ شنيعة الوجود، بشعة النتائج؛ لأنَّ المجتمع الذي تتنافر صدورُ أفراده لا يمكن أن يُقيم دِينًا لله ربِّ العالمين.
لعِلَّةٍ ما كانتْ وصية رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في حجَّة الوداع بعد ما اسْتَنْصتَ الناس: ((لا تَرْجعوا بعدي كفَّارًا يضرِب بعضُكم رقابَ بعض))؛ البخاري (121).
ولعلَّةٍ ما كانتْ آخر كلمات الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - مِن فوق المنبر: ((لا تَباغضوا، ولا تَدابروا، ولا تنافروا، وكونوا عبادَ الله إخوانًا))؛ أحمد (9039)، رَوَى البزَّار أنَّ أبا بكر الصِّدِّيق قام في الناس فحمِد الله وأثْنى عليه، ثم قال: إنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قام فينا عام أَوَّلَ، فاستعبر فبَكَى فقعد، ثم إنَّه قام أيضًا فقال: إنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قام فينا عام أَوَّلَ، فقال: ((عليكم بالصِّدْق؛ فإنَّه مِن البر، وإيَّاكم والكذِبَ؛ فإنَّه من الفجور، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا تَقاطعوا، وكونوا عبادَ الله إخوانًا كما أمرَكم الله، وسلُوا الله العافية؛ فإنَّه لا يُعْطَى عبدٌ خيرًا مِن معافاة بعد يقين))؛ مسند البزار (75).
كانتْ هذه الوصيةُ عن بصيرة، وكانتْ آخِر وصية أكَّدها مرَّةً بعدَ مرة؛ لأنَّ أولَ ضمان لثبات الدِّين هو ائتلافُ النفوس التي تحمِله، وعفَّة الألسِنة التي تذكُره، وصفاء القلوب التي تَستنير به.
ولن يُبتلَى الإسلام بمثل تنافُر ممثِّليه؛ لأنَّ أعراض هذا المرَض فاضحة، ونتائجه قاتلة.
حين يَرى امرؤٌ من عوام المسلمين أو مِن عوام غيرهم تنافرًا وتباغضًا بين رجلين كلٌّ منهما يقول: رأيي صواب لا يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأٌ لا يحتمل الصواب، لن يُدركَ أنَّ هؤلاء لا يُمثِّلون قاعدةََ الدِّين، وإنما يمثِّلون أنفسهم فقط.
ولولا كثرةُ المواقِف لقلتُ: ما لهذا مِن أثر يتخوَّف منه؛ وإنما صار شعارًا يحمله كلُّ طرف، ما أنْ تجالس أحدهما حتى يُخَطِّئَ الآخَرَ ويسبَّه ويقَعَ فيه.
والذِّهن السليم لا نَفقِده عندَ الجميع، فهناك كلما صعدْنا في سُلَّم الانتماء الدِّيني وجدْنا شخوصًا منيرة القلوب، مستنيرة الأفهام، لا تُقدِّم (الفكر) على (الدعوة)، وليس همها (زيادة الصف) في الحرَكة بقدر ما همها (زيادة الصف) في المسجد.
إنَّ الزمان استدار.
وهذا أوانُ الوحدة الحقيقيَّة.
لو أنَّ دِفء الأُخوَّة شمِل جميعَ أفراد الجماعات الإسلامية، فسوف يأتي الفتحُ الذي عانينا مِن غيابه طويلاً، لا يستوي جهدُ ملايين متَّجه إلى رِفعة الدِّين بملايين ينشغل جهدُها بالهجوم والدِّفاع.
إنَّ الحرْبَ الحقيقيَّة ليستْ بيننا وبين بعضنا البعض؛ وإنما بيننا وبين غيرنا.
يجب أن يستفيقَ الذِّهن الدِّيني إلى هذه الحقيقة، فنحن أمَّةٌ مرحومة؛ أي: مبتلاة، وكل بلاء رحمةٌ إلا بلاء الخِلاف.
أنا أتوجَّه الآن مِن هذا المنبر دافعًا صوتي إلى كلِّ أذن يتَّقي صاحبُها اللهَ، ويعمل لرضاه، أن ينسى الانتماءَ لتيَّاره، وأن يتذكَّر انتماءَه لله تعالى.
لننطلق مما اتفقْنا عليه وليعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفْنا فيه، هذه قاعدة (مقولة)، ولكنَّها ليستْ (مفعولة)، نُريد أن ننتقل مِن باب القول إلى باب العمل.
كان الصحابيُّ يقول: أكْره في فلان فِعلَه، فالمسلم لا يكره المسلمَ؛ وإنما يكره فِعلَه السيِّئ ويحبُّ فِعله الحسَن، وكيف يخلو مسلمٌ مِن فعْل حسن، قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا يَفْرَك مؤمنٌ مؤمنة، إنْ كره منها خُلُقًا، رضي منها آخَر))؛ مسلم (3721).
إنَّ هذه القاعدةَ النبويَّة أحقُّ أن تتبع بيْن الصاحِب وصاحبه كما تتبع بيْن المرْء وزوجه.
نحن على مشارفِ الفتْح المبين الذي لن يأتيَ أبدًا إلا بالوحدة المبينة.
إنَّ الأحجارَ الكثيرة لا ينقُصها غيرَ الوحدة؛ لتكون صرحًا عظيمًا.
No comments:
Post a Comment